إن الأمة التي هي أكثر الخلق طمعاً وجشعاً وعبودية للمال لابد أن تتمزق وتنهار حين ترى صنمها من الذهب يحترق.
قبل اشتعال الانتفاضة المباركة كانت الدولة اليهودية تعيش عصرها الذهبي، لا سيما في الاقتصاد، فقد أصبحت تطمع إلى الوصول إلى نادي العشر الدول الأولى في العالم من حيث مستوى دخل الفرد، أما التقنية المتقدمة لا سيما في مجال الاتصالات فقد بلغت الذروة، وأصبحت تتهيأ لاقتحام الأسواق العربية الواسعة، بعد أن ألغى العرب برامج المقاطعة، وبدءوا يستسلمون لأغلال العولمة، ومشروع الولايات الشرق أوسطية .. بل وصلت الأموال العربية في بورصة تل أبيب إلى عشرة مليارات دولار سنة (1998م).
وأصبح المهاجر اليهودي من روسيا وغيرها يحترق شوقاً لرؤية معبد العجل الذهبي الجديد، والأرض التي تفيض لبنا وعسلا...كما تقول أسفارهم.
أما المستوطنون فقد بلغوا غاية الرفاهية، وكانوا يسمون قبل الانتفاضة أصحاب الفاءات الثلاث أي " الفيلا والفولفو والفيديو ".
فلما قامت الانتفاضة المباركة هبطت بالاقتصاد اليهودي إلى أسوأ حالاته منذ قيام الدولة، وذلك بإجماع الخبراء والمراقبين في إسرائيل والهيئات الدولية المختصة، ودخلت الدولة الصهيونية في دوامة لا قرار لها في كل المجالات، ومنها المجال السياسي الأعلى في الدولة؛ فقد رأى العالم كيف أن معركة الميزانية الحالية فككت التحالف الحكومي اليهودي، وباعدت الخلاف بين أطرافه، بحيث يمكن القول: إن الصراع بين الحزبين الكبيرين أدى إلى موت حزب العمل دماغياً، وإصابة حزب الليكود بجراح خطيرة!!
إن ركود الاقتصاد أو انهياره مشكلة خطيرة في أي بلد في العالم، لكنه بالنسبة للدولة اليهودية كارثة محققة، وقد عبر أحد المحللين عن هذه الحال قائلا: "بالنسبة لنا معشر اليهود الاقتصاد أهم من الأمن ".
عند البحث في الإعلام اليهودي عن حالة الاقتصاد يجد الباحث إجماعاً ثابتاً وخلافاً شديداً في آن واحد.
أما محل الإجماع فهو: أن ما يحدث هو أسوأ ما مر على الدولة اليهودية منذ قيامها.
وأما الخلاف فهو: في الأرقام الدالة على ذلك.
فالإعلام الرسمي يذكر أرقاماً لا يقره عليها المعلقون في الصحف، ثم إن هؤلاء المعلقين يختلفون فيما بينهم كثيراً بين المتشائم جداً والأقل تشاؤماً، ولهذا الاختلاف أسباب -مع اعتبار أن الخلاف عادي في هذه الأمور- وأهمها: الميول الحزبية. كما أن بعض التقديرات تتحدث عن الخسائر المباشرة والبعض يتحدث عن جملة الخسائر .. وهكذا.
ولذلك رأيت أن أورد نماذج من كل المصادر يظهر بها مقصودنا هنا، وهو إيضاح حجم الدمار وليس تحقيق دقة الأرقام !!
فمثلا نشرت يديعوت أحرونوت في( 23/7/2002) مقالا بعنوان "الانتفاضة تلحق بالاقتصاد الإسرائيلي أضراراً بقيمة (50) مليار شيقل في سنتين أي (11) مليار دولار".
لكن الثابت أنه بعد ذلك بثلاثة أشهر عند مناقشة ميزانية عام (2003م) ظهر أن الحال أسوأ مما توقع المعنيون بالِشأن، وأن جملة الخسائر المباشرة وغير المباشرة تصل إلى (40) مليار دولار (وهو ما يعادل الميزانية السنوية السعودية المعلنة ).
وذلك أن التدهور مستمر في كل القطاعات، فمثلاً: نقص الاستثمار الخارجي في إسرائيل عام (2001م) بنسبة (60%) عن عام (2000م) ثم نقص في الربع الأول من سنة (2002م) بنسبة (55%) عن عام (2001م) حسب أحد المواقع التجارية الرسمية، لكن صحيفة معاريف تقول أن النقص كان بنسبة (67%).
وانتهت الأرقام إلى أنه منذ بداية الانتفاضة نقص الاستثمار الخارجي بنسبة (98%) (موقع وكالة الأنباء الإسرائيلية) وفي مقابل ذلك ارتفع عدد المستثمرين اليهود في الخارج بنسبة (93%) (موقع المنظمة التجارية الإسرائيلية).
في الوقت نفسه هبطت قيمة الشيقل بنسبة (22%) وارتفعت نسبة البطالة من (10,3%) في عام (2001م) إلى (10,9%) عام (2002م) وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، لكن مقالاً تالياً في يديعوت أحرونوت في (16/7/2002م) يجعل النسبة (12%) نقلاً عن مدير المعهد الإسرائيلي للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية الذي قال :
"إنها نسبة قياسية لم تشهدها الدولة منذ قيامها ".
وتقدم المجلة المتخصصة "ستار" إحصاءات رسمية لكنها ذات دلالة واضحة:-
خسارة قطاع السياحة عام (2001م) (2,2) مليار.
وتقول أنه وفقاً لتقدير وزير الاقتصاد خسر هذا القطاع في سنتين (5) مليارات دولار.
العجز في الميزان التجاري لنفس السنة: (600) مليون دولار.
خسارة التجارة مع السلطة الفلسطينية لنفس السنة: (500) مليون دولار.
خسارة قطاع الإعمار لنفس السنة: (700) مليون.
خسارة قطاع الزراعة لنفس السنة: (500) مليون.
خسارة شركة العال : (500) مليون دولار.
نقص دخل الفرد بنسبة (9%)
وأوردت أن ثلث الناتج القومي للدولة الصهيونية يعتمد على المعونة الأمريكية -وهذا يفسر لماذا طلب شارون من بوش 10 مليارات دولار عاجلاً- في حين ينقل موقع وكالة الأنباء الإسرائيلية أن الناتج القومي نقص بنسبة (9%) والاستثمار نقص بنسبة (11%).
ونقص قطاع العقار والمصانع بنسبة (33%)، وأكثر القطاعات تضرراً هو قطاع السياحة حيث نقص بنسبة (45%) إلا أن تقارير أخرى تؤكد أن النسبة هنا أعلى بكثير؛ لأن المشكلة لا تنحصر في الهبوط الحاد في نسبة السياح فقط، بل في كون السائح لا يكاد يغادر الفندق للتسوق إلا قليلاً؛ لأن الوضع الأمني يتدهور باستمرار، وقد عبر أحد السواح الأمريكيين عن هذا قائلاً:
" إن الحال تحول من حفلات أعراس إلى مواكب جنائز ".
وامتد الهاجس الأمني إلى الطيارين الأجانب الذين يرفضون الانتظار في إسرائيل ويذهبون إما إلى عمان (!!) أو قبرص.
وهناك سبب كبير للتدهور هو: الإنفاق العسكري، فقد أرغمت الانتفاضة المباركة الدولة اليهودية على أن تعيش حالة طوارئ قصوى يومياً، وهذا استنـزاف حقيقي للموارد المالية والبشرية أيضاً، ويذكر موقع البي بي سي يونيو 2002 )أن مجرد وجود الدبابات في المدن الفلسطينية يكلف الجيش الصهيوني (70) مليون دولار شهرياً -أي: قرابة (9) ملايين ريال يومياً- وقس على ذلك تكاليف القطاعات الأخرى.
وبالرغم من تكتم الأجهزة الإسرائيلية على ما يتصل بهذا الشأن، فقد ذكر الموقع أن الزيادة في الميزانية الدفاعية بلغت (4) مليارات دولار، وهذا وحده كافٍ للمقارنة بتكاليف (حرب رمضان) التي بلغت خمسة مليارات!!
وفضلاً عما خسره الجيش الصهيوني من عتاده وأفراده، حدثت خسائر لم تكن في الحسبان، فمثلاً: تدمير الدبابة "مركفا 3" أدى إلى إلغاء عقود شراء كبيرة لها من دول عدة منها الهند والأرجنتين وتركيا والصين!! فوق أنه اقتضى ميزانية إضافية لزيادة متانتها وتحصينها.
أما المستوطنات: فهي الطفيلي الذي يستنـزف باستمرار دون أن يعطي شيئاً، فالاحتياطات الأمنية تتضاعف باستمرار ومنها الطرق الالتفافية، وأجهزة الإنذار، وأعداد الجنود والآليات، ووصل الأمر إلى إعطاء المستوطنين سيارات لا يخترقها الرصاص؛ ولهذا كانت مسألة ميزانية المستوطنات المشكلة التي مزقت التحالف الحكومي !!
وأصبحت القضية كما كتب "يهودا ليطاني" بعنوان "إخلاء المستوطنات أو انهيار اقتصادي" (يديعوت أحرونوت 6/2/2003) نظراً لازدياد البطالة، وغلاء المعيشة، وتدهور قيمة العملة؛ اقتضى الأمر تخصيص مبالغ أكبر للضمان الاجتماعي، كما أن التدهور الأمني اقتضى زيادة التأمين أضعافاً، ولا سيما على الطيران، والنقل البحري؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد والتصدير، وبالتالي تعميق الأزمة.
وهذه الأسباب وغيرها أدت إلى فرض ضرائب جديدة، أو التفكير في ذلك، وهو الإجراء الذي كلما حدث ازدادت الأمور سوءاً.
وإجمالاً: فالوضع العام هو كما قال أحد الخبراء: تنطبق عليه نظرية (الضومنة)، أي: أنه إذا انهار جزء سرى الانهيار إلى الأجزاء الأخرى، ولا ريب أن أجزاء كثيرة انهارت معاً.
وهنا لابد من القول بأن معركة الميزانية لم تنته بعد، وأن الأرقام التي أعلنت وكانت حينئذٍ موضع شك أصبحت الآن كاذبة بلا ريب، فقد نشرت يديعوت أحرونوت في (28/1/2003) مقالاً عن ذلك بعنوان: " المالية ستطرح خطة طوارئ بعد الانتخابات ".
وجاء فيه: " إن بنك إسرائيل المركزي يقول: إن الميزانية التي صدق عليها الكنيست لعام (2003م) تقوم على تقديرات مفرطة في الدخل المتوقع؛ الأمر الذي من شأنه أن ينعكس في ازدياد العجز المالي بنسبة تفوق ما هو مخطط ".
وتصديقاً لذلك جاء تقرير صندوق النقد الدولي ليؤكد أن العجز سيفوق المخطط له، وأوردت الصحيفة نفسها في (4/2/2003) ذلك ضمن مقال بعنوان: " رقم قياسي في العجز الحكومي في يناير (2,66) مليار شيقل "
واستهلته بالقول: " حكومة إسرائيل تستهل العام بعجز ضخم يفوق ما هو مخطط له بمليار ونيف ".
فإذا كان هذا في أول شهر من السنة فكيف يكون سائرها؟
وقد أظهرت التقارير الاقتصادية للصحيفة أن السنة الجديدة شهدت تدهوراً في مجالات كثيرة منها:-
1- هبوط بنسبة (37%) في نسبة دخول السياح شهر فبراير إلى إسرائيل.
2- انخفاض بنسبة (13%) في حركة المسافرين في مطار (بن جوريون الدولي).
3- انخفاض نسبة زوار المجمعات التجارية في إسرائيل بنسبة (30-50 %) في عيد الفصح!!
وفي موقع (بي بي سي) في (18/2/2003م) يرد إعلان رئيس اتحاد المصانع الإسرائيلية عن إغلاق (60) مصنعاً في إسرائيل سنة (2002م)، بالإضافة إلى إغلاق (150) مصنعاً للتقنية المتقدمة، وأنذر المجتمعين في مؤتمر الاتحاد بأن عام (2003م) قد يشهد إغلاق (90) مصنعاً للأثاث، وكذلك (150) مصنعاً للتقنية، ولأن هذه المعلومات وأمثالها تفوق التوقعات، ولأن الفساد استشرى في زعماء الدولة الصهيونية بشكل فاضح، لم يجد البيت الأبيض مناصاً من رد شارون خائباً في زيارته الأخيرة لـأمريكا، مع المطالبة بالأرقام التفصيلية للميزانية الإسرائيلية، وهو طلب غير معهود في التعامل السياسي بين الدول، لكن هآرتس في (26/2/2003) نقلت عن الوزير الإسرائيلي المسئول أن إجابة الطلب لابد منها، وأن شارون أعطاه الموافقة على ذلك.
وكشفت الصحيفة في المقال نفسه عن خطط الطوارئ التي ستنفذها الحكومة، وهي واضحة الدلالة حيث تشمل:
1- تسريح (10%) من موظفي الدولة.
2- تخفيض المرتبات بنسبة (10%).
3- تقليص عدد الوزارات من (23إلى 19) فقط.
4- تقليص عدد الموظفين في الإدارة المحلية بنسبة (40%).
وهنا ينبغي التذكير بأمر يغيب عن الإعلام العربي كثيراً، وهو: أن إسرائيل دولة طبقية عنصرية، وأن اليهود الشرقيين -خاصة الأفارقة والهنود - يعيشون في مستوى غير إنساني قبل الانتفاضة، فلما تردت الأمور بعدها ازداد حالهم سوءاً، فهم لا يشتكون من نقص الدخل بل من نقص الطعام!
وقد بلغ ذلك إلى حد أن من يعمل منهم ضمن جنود الاحتياط يبقى في العمل بعد انتهاء نوبته، معللاً ذلك بأنه ليس في بيته طعام، هذا مع أن عادة الجنود الصهاينة أنهم ينتظرون المغادرة بفارغ الصبر.
ومع أن الأمريكيين وأشباههم هم سكان المستوطنات المرفهين، فإن المستوطنات هي أكثر القطاعات ركوداً، بسبب الرعب وكثرة الاحتياطات الأمنية، ويتهم الشعب اليهودي مائة أسرة تسكن في الحي الراقي شمال تل أبيب، بامتصاص معظم خيرات البلاد، وجل هؤلاء من اليهود الأمريكيين الأثرياء، ومع ذلك فإن هذه الطبقة قد هاجر أكثرها، وهم يديرون الأعمال من أمريكا.
وتبع ذلك مغادرة الأمريكيين العاملين في إسرائيل، كما أوردت المجلة التجارية " سانت لويس " (6/1/2003) وإن كانوا فسروا ذلك بأنه احتياط بسبب احتمال الحرب على العراق!
إن مجموع هذه المظاهر والمشكلات -لا سيما في الأمن والاقتصاد- آتٍ أكله في المجتمع اليهودي المذعور في جوانب أخرى، مثل ازدياد نسبة الانتحار، وارتفاع مستويات الجريمة، وتباعد شقة الخلاف بين الطبقات والفئات، خاصة بين الفئة الدينية المميزة وبين الفئة العلمانية، وقد وصل الحال إلى درجة أن المفكرين والكتاب الصهاينة باتوا يتحدثون عن "ثورة جياع" أو "تمرد فقراء" على مثال ما حدث في الأرجنتين.
وعن هذا كتب يغال سآرنا " بعنوان "القلق" قائلاً:
" هل حسم مصيرنا نحن الإسرائيليين بأن نعيش كل أيامنا بقلق وانتظار الكارثة القادمة: عملية تفجيرية، أو عطش، أو حرب، والآن أيضا تمرد فقراء ".
ويوضح: " أصبحت تتملكنا كارثة تمرد الفقراء.. وتستقر في قلوبنا إلى جانب سلفها من الأفكار الكارثية أفكار القذف في البحر، وتجفيف بحيرة طبرية حتى الموت"!!
وأخيرا بكلمة واحدة: لقد انهارت الأسطورة، أسطورة العجل الذهبي، وأحرقته الانتفاضة المباركة، وسوف تنسفه في اليم نسفاً بإذن الله، أما حلم الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً فقد أفاق منه الصهاينة على أرض تفيض دماً وأشلاء!!